سورة البقرة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


الفرق: الفصل، فرق بين كذا وكذا: فصل، وفرق كذا: فصل بعضه من بعض، ومنه: الفرق في شعر الرأس، والفريق، والفرقان، والتفرق، والفرق، المفروق، كالطحن. والفرق ضده: الجمع، ونظائره: الفصل، وضده: الوصل، والشق والصدع: وضدهما اللأم، والتمييز: وضده الاختلاط. وقيل: يقال فرق في المعانى، وفرق في الأجسام، وليس بصحيح. البحر: مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه، ويجمع في القلة على أبحر، وفي الكثرة على بحور وبحار، وأصله قيل: الشق، وقيل: السعة. فمن الأول: البحيرة، وهي التي شقت أذنها، ومن الثاني: البحيرة، المدينة المتسعة، وفرس بحر: واسع العدو، وتبحر في العلم: أي اتسع، وقال:
انعق بضأنك في بقل تبحره *** من الأباطح وأحبسها بخلدان
وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح، قال تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج} وجاء استعماله للملح، ويقال: هو الأصل، فيه أنشد أحمد بن يحيى:
وقد عاد عذب الماء بحراً فزادني *** على مرض أن أبحر المشرب العذب
أي صار ملحاً. الغرق: معروف، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح، قال:
وتارات يجمّ فيغرق ***
والتغريق، والتعويص، والترسيب، والتغييب، بمعنى واحد. النظر: تصويب المقلة إلى المرئيّ، ويطلق على الرؤية، وتعديته بإلى، ويعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، فلينظر أيها أزكى طعاماً، ونظره وانتظره وانظره: أخره، والنظرة: التأخير. وعد في الخير والشر، والوعد في الخير، وأوعد في الشر، والإيعاد والوعيد في الشر. موسى: اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال: هو مركب من مو: وهو الماء، وشاو: هو الشجر. فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا في اشتقاقه، فقال مكيّ: موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره: هو مشتق من ماس يميس، ووزنه: فعلى، فأبدلت الياء واواً الضمة ما قبلها، كما قالوا: طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى، بالإجماع على صرفه نكرة، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة. الأربعون: ليس بجمع سلامة، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.
الليلة: مدلولها معروف، وتكسر شاذاً على فعالى، فيقال: الليالي، ونظيره: الكيكة والكياكي، كأنه جمع ليلاه وكيكاه، وأهل والأهالي. وقد شذوا في التصغير كما شذوا في التكسير، قالوا: لييله.
الاتخاذ: افتعال من الأخذ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول: إيتخذ كهمزة إيمان إذ أصله: إإمان، وكقولهم: ائتزر: افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول: اتصل واتسر من الوصل واليسر، فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها. هذا هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا: إتمن، وأصله: إئتمن. وعلى هذا جاء: اتخذ. ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر: أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال: وخذ بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإن كان مبنياً على اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة. وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت: قالت العرب تخذ بكسر الخاء، بمعنى: أخذ، قال: تعالى: {لاتخذت عليه أجراً} في قراءة من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها *** نسيفاً كأفحوص القطاة المطوّق
فعلى قوله: التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت: اتخذ، كما تقول: اتبع، مبنياً من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن أصله: اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا: تقى، واستدل على ذلك بقولهم: تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا: يتقي ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة. ورد السيرافي هذا القول وقال: لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة، كقاف تفي، وأما يتخذ فمحذوف مثل: يتسع، حذف من المضارع دون الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى. وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو: تخذ يتخذ تخذاً، قال الشاعر:
ولا تكثرن تخذ العشار فإنها *** تريد مباءات فسيحاً بناؤها
وذكر المهدوي في شرح الهداية: أن الأصل واو مبدلة من همزة، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال: أحدها: التاء الأولى أصل. الثاني: أنها بدل من واو أصلية. الثالث: أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع: أنها بدل من واو أبدلت من همزة، واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله تعالى: {اتخذت بيتاً} وتارة لاثنين نحو قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} بمعنى صير. العجل: معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد: ظرف زمان، وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت: جئت بعد زيد، فالتقدير: جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها.
عفا: بمعنى كثر، فلا يتعدى حتى عفوا، وقالوا: وبمعنى درس، فيكون لازماً متعدياً نحو: عفت الديار، ونحو: عفاها الريح، وعفا عن زيد: لم يؤاخذه بجريمته، واعفوا عن اللحى، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئاً، ورجل عفوّ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين، وهو جميع شاذ، والعفاء: الشعر الكثير، قال الشاعر:
عليه من عقيقته عفاء ***
ويقال في الدعاء على الشخص: عليه العفاء، قال:
على آثار من ذهب العفاء ***
يريد الدروس، وتأتي عفا: بمعنى سهل من قولهم: خذ ما عفا وصفا، وأخذت عفوه: أي ما سهل عليه، {ماذا ينفقون قل العفو} أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه، ومنه: خذ العفو، أي السهل على أحد الأقوال، والعافية: الحالة السهلة السمحة. الشكر: الثناء على إسداء النعم، وفعلة: شكر يشكرشكراً وشكوراً، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها، وهو قسم برأسه، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك. وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعاً. وقيل: الشكر: إظهار النعمة من قولهم: شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته، والشكير: صغار الورق يظهر من أثر الماء، قال الشاعر:
وبينا الفتى يهتز للعيش ناضراً *** كعسلوجة يهتز منها شكيرها
وأوّل الشيب، قال الراجز:
ألان ادلاج بك العتير *** والرأس إذ صار له شكير
وناقة شكور تذر أكثر مما رعت ***
الفرقان: مصدر فرق، وتقدّم الكلام في فرق.
{وإذا فرّقنا بكم البحر}: معطوف على: وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف. وقرأ الزهري: فرّقنا بالتشديد، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكاً على عدد أسباط بني إسرائيل. ومن قرأ: فرقنا مجرداً، اكتفى بالمطلق، وفهم التكثير من تعداد الأسباط. بكم: متعلق بفرّقنا، والباء معناها: السبب، أي بسبب دخولكم، أو المصاحبة: أي ملتبساً، كما قال:
تدوس بنا الجماجم والتريبا ***
أي ملتبسة بنا أو: أي جعلناه فرقاً بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، وهو قريب من معنى الاستعانة، أو معناها اللام، أي فرّقنا لكم البحر، أي لأجلكم، ومعناها راجع للسبب. ويحتمل الفرق أن يكون عرضاً من ضفة إلى ضفة، ويحتمل أن يكون طولاً، ونقل كل: وعلى هذا الثاني قالوا: كان ذلك بقرب من موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة. وذكر العامري: أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين، وهي كانت طريقهم.
البحر: قيل هو بحر القلزم من بحار فارس، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ، وقيل: بحر من بحار مصر يقال له أساف، ويعرف الآن ببحر القلزم، قيل: وهو الصحيح، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط، اثنى عشر مسلكاً. واختلفوا في عدد المفروق بهم، وعدد آل فرعون، على أقوال يضاد بعضها بعضاً، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، حكايات مطوّلة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها، فالله أعلم بالصحيح منها.
{فأنجيناكم}: يعني من الغرق، ومن إدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء؟ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء، وفي صومه، وهي مسألة تذكر في الفقه. وبين قوله: {فرّقنا بكم البحر}، وبين قوله: {فأنجيناكم} محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره: وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم. {وأغرقنا آل فرعون} والهمزة في أغرقنا للتعدية، ويعدى أيضاً بالتضعيف. ولم يذكر فرعون فيمن غرق، لأن وجوده معهم مستقرّ، فاكتفى بذكر الآل هنا، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم، فناسب هذا إفرادهم بالغرق. وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر، منها: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ} {حتى إذا أدركه الغرق} {فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم} وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح، بإلقائه وهو طفل في البحر، وخروجه منه سالماً. ولكل أمّة نصيب من نبيها. وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت، ولا دم خارج، وكان ما به الحياة {وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ} سبباً لإعدامهم من الوجود. ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة، جعله الله تعالى نكالاً لمن ادّعى الربوبية، فقال: {أنا ربكم الأعلى} إذ على قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعى وتغييبه في قعر الماء.
{وأنتم تنظرون}: جملة حالية، وهو من النظر: بمعنى الإبصار. والمعنى، والله أعلم: أن هذه الخوارق العظيمية من فرق البحر بكم، وإنجائكم من الغرق، ومن أعدائكم، وإهلاك أعدائكم بالغرق، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه، لم يصل ذلك إليكم بنقل، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم. وقيل: وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض، وقيل: إلى طفوهم على وجه الماء غرقى. وقيل: إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر، لم يترك البحر في جوفه منهم واحداً.
وقيل: تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أين أصحابنا؟ فقال: سيروا، فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصار بها كوى، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضاً. وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية، وقيل: النظر تجوز به عن القرب، أي وأنتم بالقرب منهم، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم: أنت مني بمرأى ومسمع، أي قريب بحيث أراك وأسمعك، قاله ابن الأنباري. وقيل: هو من نظر البصيرة والعقل، ومعناه: وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم. وقيل: النظر هنا بمعنى العلم، لأن العلم يحصل عن النظر، فكنى به عنه، قاله الفراء، وهو معنى قول ابن عباس.
{وإذا واعدنا موسى أربعين ليلة} قرأ الجمهور: واعدنا، وقرأ أبو عمرو: وعدنا بغير ألف هنا، وفي الأعراف وطه، ويحتمل واعدنا: أن يكون بمعنى وعدنا، ويكون صدر من واحد، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة، فيكون الله قد وعد موسى الوحي، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى، وقبول الوعد يشبه الوعد. قال القفال: ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده. وقيل: وعد إذا كان عن غير طلب، وواعد إذا كان عن طلب. وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ: وعدنا بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ: واعدنا بالألف، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي. وقال أبو عبيد: المواعدة لا تكون إلا من البشر، وقال أبو حاتم: أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلاً منهما متواتر، فهما في الصحة على حدّ سواء. وأكثر القراء على القراءة بألف، وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وابن كثير، ونافع، والأعمش، وحمزة، والكسائي. موسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحوّاني النسابة: أن موسى على نبينا وعليه السلام هو: موسى بن عمران بن قاهث، وتقدّم الكلام في لفظ موسى العلم. وأما موسى الحديدة، التي يحلق بها الشعر، فهي مؤنثة عربية مشتقة من: أسوت الشيء، إذا أصلحته، ووزنها مفعل، وأصلها الهمز، وقيل: اشتقاقها من: أوسيت إذا حلقت، وهذا الاشتقاق أشبه بها، ولا أصل للواو في الهمز على هذا. {أربعين ليلة}: ذو الحجة وعشر من المحرّم، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين، وقرأ علي وعيسى بن عمر: بكسر باء أربعين شاذاً اتباعاً، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذف مضاف التقديم تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله:
فواعديه سر حتى مالك *** أو النقا بينهما أسهلا
أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة: منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة، نحو:
على أنني بعدما قد مضى *** ثلاثون للهجر حولاً كميلا
وعشرين منها أصبعاً من ورائنا ***
ولا تعريف للتمييز، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب: ما فعلت العشرون الدرهم، وما جاء نحو: هذا مما يدل على التعريف، وذلك مذكور في علم النحو. وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم، لأن أوّل الشهر ليلة الهلال، ولهذا أرّخ بالليالي، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعاً لليالي، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} أو دلالة على مواصلته الصوم ليلاً ونهاراً، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذه المواعدة للتكلم، أو لإنزال التوراة. قال المهدوي: وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوماً وعشرة ليال، فقالوا: قد أخلفنا موعده، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: لما دخل بنو إسرائيل مصر، بعد هلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة، وضرب له ميقاتاً، انتهى.
{ثم اتخذتم العجل}: الجمهور على إدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة: بالإظهار، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلاً، كما قال: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار} على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلهاً، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهاً، والأرجح القول الأوّل، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي: {واتخذ قوم موسى}، وفي: {اتخذوه وكانوا ظالمين}، وفي: {إن الذين اتخذوا العجل} وفي قوله في هذه السورة أيضاً: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة. فعلى القول الأوّل فيه ذمّ الجماعة بفعل الواحد، لأن الذي عمل العجل هو السامري، وسيأتي، إن شاء الله، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى: {وأضَلهم السامري} وذلك عادة العرب في كلامها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها. وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية، إذ لم يتقدّم عهد فيه، وعلى القول الثاني للعهد السابق، إذ كانوا قد صنعوا عجلاً ثم اتخذوا ذلك العجل إلهاً، وكونه عجلاً ظاهر في أنه صار لحماً ودماً، فيكون عجلاً حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة، قاله الحسن. وقيل: هو مجاز، أي عجلاً في الصورة والشكل، لأن السامري صاغه على شكل العجل، وكان فيما ذكروا صائغاً، ويكون نسبة الخوار إليه مجازاً، قاله الجمهور، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف، إن شاء الله. ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلاً لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى، فاتخذوه إلهاً، قاله أبو العالية، أو سمى هذا عجلاً، لقصر مدّته.
{من بعده}، من: تفيد ابتداء الغاية، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة، إذا الظاهر عود الضمير على موسى، ولا تتصوّر التعدية في الذات، فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدته، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ. ويبين المهلة قصة الأعراف، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد، فزال التعارض. وقيل: الضمير في بعده يعود على الذهاب، أي من بعد الذهاب، ودل على ذلك أن المواعدة تقتضي الذهاب، فيكون عائداً على غير مذكور، بل على ما يفهم من سياق الكلام، نحو قوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} {فأثرن به نقعاً} أي توارت الشمس، إذ يدل عليها قوله: بالعشي، وأي فأثرن بالمكان، إذ يدل عليه {والعاديات} {فالموريات} {فالمغيرات} إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه.
وقيل: الضمير يعود على الانجاء، أي من بعد الانجاء، وقيل: على الهدى، أي من بعد الهدى، وكلا هذين القولين ضعيف.
{وأنتم ظالمون}: جملة حالية، ومتعلق الظلم. قيل: ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها، وقيل: بتعاطي أسباب هلاكها، وقيل: برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل، ولم تنكروا عليه. ويحتمل أن تكون الجملة غير حال، بل إخبار من الله إنهم ظالمون: أي سجيتهم الظلم، وهو وضع الأشياء في غير محلها. وكان المعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين، كقوله تعالى: {اتخذوه وكانوا ظالمين}. وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل. وظاهر قوله: ثم اتخذتم العموم، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون، وقيل: الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل، وقيل: كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفاً، قيل: وهذا هو الصحيح، وقيل: إلا هارون والسبعين رجلاً الذين كانوا مع موسى. واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر، فقالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم العجل، وقيل: إنه كان من قوم يعبدون البقر، وكان منافقاً يظهر الإيمان بموسى، فاتخذ عجلاً من جنس ما كان يعبده، وفي اتخاذهم العجل إلهاً دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة، تبين له بأوّل وهلة فساد دعوى أن العجل إله. وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدّي وغيرهما قصصاً كثيراً مختلفاً في سبب اتخاذ العجل، وكيفية اتخاذه، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة، الله أعلم بصحتها، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب.
{ثم عفونا عنكم}: تقدّمت معاني عفا، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب، أو من باب الترك، أو من باب السهولة، والعفو والصفح متقاربان في المعنى. وقال قوم: لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم، وإن كان بمعنى المحو، كان عاماً لفظاً ومعنى، فإنه تعالى تاب على من قتل، وعلى من بقي، قال تعالى: {فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم} وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له. وقالت المعتزلة: عفونا عنكم، أي بسبب إتيانكم بالتوبة، وهي قتل بعضهم بعضاً: {من بعد ذلك} إشارة إلى اتخاذ العجل، وقيل: إلى قتلهم أنفسهم، والأوّل أظهر.
{لعلكم}: تقدّم الكلام في لعل في قوله: {لعلكم تتقون}، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى، فأغنى عن إعادته. {تشكرون}: أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرن النعمة بالثناء، وقالوا: الشكر باللسان، وهو الحديث بنعمة المنعم، والثناء عليه بذلك وبالقلب، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعَم عليه، وبالعمل {اعملوا آل داود شكراً} وبالله أي شكراً لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو، وقال بعضهم:
وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة *** وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى
وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي *** ولا بلساني بل به شكره عنا
ومعنى لعلكم تشكرون: أي عفو الله عنكم، لأن العفو يقتضي الشكر، قاله الجمهور، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو، أو تعترفون بنعمتي، أو تديمون طاعتي، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال: وقال ابن عباس: الشكر طاعة الجوارح. وقال الجنيد: الشكر هو العجز عن الشكر. وقال الشبلي: التواضع تحت رؤية المنة. وقال الفضيل: أن لا تعصي الله. وقال أبو بكر الورّاق أن تعرف النعمة من الله. وقال ذو النون: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان. قال القشيري: سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه، يشهد لذلك {من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك}، وقال لهذه الأمة: {ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره} انتهى كلامه. وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو، لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلهاً هو من أعظم، أو أعظم إسداء النعم، فلذلك قال: {لعلكم تشكرون}.
{وإذ آتينا موسى الكتاب}: هو التوراة بإجماع المفسرين. {والفرقان}: هو التوراة، ومعناه أنه آتاه جامعاً بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل، ويكون من عطف الصفات، لأن الكتاب في الحقيقة معناه: المكتوب، قاله الزجاج، واختاره الزمخشري، وبدأ بذكره ابن عطية قال: كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك، أو الواو مقحمة، أي زائدة، وهو نعت للكتاب، قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
قاله الكسائي، وهو ضعيف، وإنما قوله، وابن الهمام، وليث: من باب عطف الصفات بعضها على بعض. ولذلك شرط، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني، أو النصر، لأنه فرق بين العدوّ والولي في الغرق والنجاة، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعليه السلام من العصا واليد وغير ذلك، لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو الفرق بين الحق والباطل، قاله أبو العالية ومجاهد، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان، قاله ابن بحر وابن زيد، أو الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ومنه قوله تعالى: {يجعل لكم فرقاً} أي فرجاً ومخرجاً. وهذا القول راجع لمعنى النصر أو القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري، أو القرآن على حذف مفعول، التقدير: ومحمداً الفرقان، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب، وقالوا: هو كقول الشاعر:
وزججن الحواجب والعيونا ***
التقدير: وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة، لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصير نظير: أطعمت زيداً خبزاً ولحماً، ويكون: اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من: وزججن الحواجب والعيون، لما هو مذكور في النحو. وقد جاء: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو انفراق البحر، قاله يمان وقطرب، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله: {إذ فرقنا}، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان، ولا يليق إلا بالكتاب. وأجيب بأنه، وإن سبق ذكر الانفلاق، فأعيد هنا ونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه السلام، وذلك هو الهداية، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم، ونعمة النجاة من أعدائهم. فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا..
{لعلكم تهتدون}: ترجية لهدايتهم، وقد تقدم الكلام في لعل. وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا، وفي قوله قيل: {لعلكم تشكرون}، أنه توقع، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوباً، كانت للترجي، فإن كان محذوراً، كانت للتوقع، كقولك: لعل العدو يقدم. والشكر والهداية من المحبوبات، فينبغي أن لا يعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي. قال القشيري: فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم، يفرقون به بين الحق والباطل: استفت قلبك، اتقوا فراسة المؤمن. المؤمن ينظر بنور الله {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاً}، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان، انتهى كلامه. وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان، لأن الكتاب به تحصل الهداية {إنا أنزلنا التوارة فيها هدى ونور} {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى} {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولاً منها: فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكاً على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليه السلام، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة، لأن الأولى هي التفضيل، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم ينظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم.
ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل، فذكر سبب ذلك، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا، ولم يطل عليهم الأمد، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم، فأي نعمة أعظم من هذه؟ ثم ذكر النعمة الخامسة، وهي ثمرة الوعد، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم. وجاء ترتيب هذه النعم متناسقاً يأخذ بعضه بعنق بعض، وهو ترتيب زماني، وهو أحد الترتيبات الخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب، لأن التفضيل أمر حكمي، فهو أول ثم وقعت النعم بعده، وهي أفعال يتلو بعضها بعضاً. فأولها الإنجاء من سوء العذاب، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى إياهم من مصر، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج، والإنجاء، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عياناً هذا الخارق العظيم، ثم وعد الله لموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك، ثم اتخاذهم العجل، ثم العفو عنهم، ثم إيتاء موسى التوراة. فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدرّ في أسلاكها، والزهر في أفلاكها، كل فصل منها قد ختم بمناسبة، وارتقى في ذروة الفصاحة إلى أعلى مناصبه، وارداً من الله على لسان محمد أمينه لسان من لم يتل من قبل كتاباً ولا خطه بيمينه.


القوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرؤ، وقياسه أن لا يجمع، وشذ جمعه، قالوا: أقوام، وجمع جمعه قالوا: أقاويم فقيل يختص بالرجال. قال تعالى: {لا يسخر قوم من قوم}، ولذلك قابله بقوله: {ولا نساء من نساء} وقال زهير:
أقوم آل حصن أم نساء ***
وقال آخر:
قومي هم قتلوا أميم أخي *** فإذا رميت يصيبني سهمي
وقال آخر:
لا يبعدن قومي الذين هم *** سم العداة وآفة الجزر
وقيل: لا يختص بالرجال بل ينطلق على الرجال والنساء: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه} {ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة} كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال هذا القائل: أما إذا قامت قرينة على التخصيص فيبطل العموم ويكون المراد ذلك الشيء المخصص. والقول الأول أصوب، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع وتغليب الرجال، والمجاز خير من الاشتراك. وسمي الرجال قوماً لأنهم يقومون بالأمور. البارئ: الخالق، برأ يبرأ: خلق، وفي الجمع بين الخالق والبارئ في قوله: {هو الله خالق البارئ المصور} ما يدل على التباين، إلا أن حمل على التوكيد. وقد فرق بعض الناس بينهما، فقال: البارئ هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال. وقال بعض العلماء: برأ وأنشأ وأبدع نظائر. قال المهدوي وغيره: واللفظ له، وأصله من تبرى الشيء من الشيء، وهو انفصاله منه، فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود، انتهى. وقال أميّة الخالق البارئ المصور في الأرحام ماء حتى يصير دماً. القتل: إزهاق الروح بفعل أحد، من طعن أو ضرب أو ذبح أو خنق أو ما شابه ذلك، وأما إذا كان من غير فعل فهو موت هلاك، والمقتل: المذلل، وقال امرؤ القيس:
بسهميك في أعشار قلب مقتل ***
شرحوه: بالمذلل.
خير: هي أفعل التفضيل، حذفت همزتها شذوذاً في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت، كما حذفوها شذوذاً في الشعر من أحب للتي للتفضيل، وقال الأحوص:
وزادني كلفاً بالحب أن منعت *** وحب شيء إلى الإنسان ما منعا
وقد نطقوا بالهمزة في الشعر، قال الشاعر:
بلال خير الناس وابن الأخير ***
وتأتي خير أيضاً لا،


الدخول: معروف، وفعلة: دخل يدخل، وهو مما جاء على يفعل بضم العين. وكان القياس فيه أن يفتح، لأن وسطه حرف حلق، كما جاء الكسر في ينزع وقياسه أيضاً الفتح. القرية: المدينة، من قريت: أي جمعت. سميت بذلك لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة. وقيل: إن قلواقيل لها قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة. وقيل: أقل العدد الذي تسمى به قرية ثلاثة فما فوقها، ومنه، قريت الماء في الحوض، والمقراة: الحوض، ومنه القرى: وهو الضيافة، والقرى: المجرى، والقرى: الظهر. ولغة أهل اليمن: القرية، بكسر القاف، ويجمعونها على قِرى بكسر القاف نحو: رشوة ورشا. وأما قرية بالفتح فجمت على قرى بضم القاف، وهو جمع على غير قياس. قيل: ولم يسمع من فعله المعتل اللام إلا قرية وقرى، وتروة وترى، وشهوة وشهى. الباب: معروف، وهو المكان الذي يدخل منه، وجمعه أبواب، وهو قياس مطرد، وجاء جمعه على أبوبة في قوله:
هتاك أخبية ولاج أبوبة *** لتشاكل أخبية
كما قالوا: لا دريت ولا تليت، وأصله تلوت، فقلبت الواو ياء لتشاكل دريت. سجداً: جمع ساجد، وهو قياس مطرد في فاعل وفاعلة الوصفين الصحيحي اللام. وقولوا: كل أمر من ثلاثي اعتلت عينه فانقلبت ألفاً في الماضي، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر نحو: قل وبع، أو لضمير مؤنث نحو: قلن وبعن، فإن اتصل به ضمير الواحدة نحو: قولي، أو ضمير الاثنين نحو: قولا، أو ضمير الذكور نحو: قولوا، ثبتت تلك العين، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في النحو. وقد جاء حذفها في الشعر، فجاء قوله: قلى وعشا. حطة: على وزن فعلة من الحط، وهو مصدر كالحط، وقيل: هو هيئة وحال: كالجلسة والقعدة، والحط: الإزالة، حططت عنه الخراج: أزلته عنه. والنزول: حططت. وحكى: بفناء زيد نزلت به، والنقل من علو إلى أسفل، ومنه انحطاط القدر. وقال أحمد بن يحيى، وأبان بن تغلب، الحطة: التوبة. وأنشدوا:
فاز بالحطة التي جعل الله *** بها ذنب عبده مغفوراً
أي فاز بالتوبة، وتفسيرهما الحطة بالتوبة إنما هو تفسير باللازم لا بالمرادف، لأن من حط عنه الذنب فقد تيب عليه. الغفر والغفران: الستر، وفعله غفر يغفر، بفتح الغين في الماضي وكسرها في المضارع. والغفيرة: المغفرة، والغفارة: السحاب وما يلبس به سية القوس، وخرقة تلبس تحت الخمار، ومثله المغفر والجماء، الغفير: أي جماعة يستر بعضهم بعضاً من الكثرة. وقوله عمر لمن قال له: لم حصبت المسجد؟ هو أغفر للنخامة، كل هذا راجع لمعنى الستر والتغطية. الخطيئة: فعيلة من الخطا، والخطأ: العدول عن القصد، يقال خطئ الشيء: أصابه بغير قصد، وأخطأ: إذا تعمد، وأما خطايا: فجمع خطية مشددة عند الفراء، كهدية وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل.
فعند سيبويه: أصله خطائيّ، مثل: صحائف، وزنة، فعائل، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار: خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فصار: خطآء، فوقعت همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف فصار: كأنه اجتمع ثلاثة أمثال، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا، كهدايا ومطايا. وعند الخليل أصله: خطايئ، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي، المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابق في قوله سيبويه.
وملخص ذلك: أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة، على رأي سيبويه، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا. الإحسان والإنعام والإفضال: نظائر، أحسن الرجل: أتى بالحسن، وأحسن الشيء: أتى به حسناً: وأحسن إلى عمر وأسدي إليه خيراً. التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا: أي عوضه، ويتعدّى لاثنين، الثاني أصله حرف جر: بدلت ديناراً بدرهم: أي جعلت ديناراً عوض الدرهم، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول: بدلت زيداً ديناراً بدرهم: أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، قال تعالى: {فأولئك يبدّل الله سيئاتهم} أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل، والمنصوب هو الذاهب، حتى قالوا: ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته، وصوابه: لو أبدل ظاء بضاد. الرجز: العذاب، وتكسر راؤه وتضم، والضم لغة بني الصعدات، وقد قرئ بهما في بعض المواضع، قال رؤبة:
كم رامنا من ذي عديد مبزي *** حتى وقينا كيده بالرجز
والرجز، بالضم: اسم صنم مشهور، والرجزاء: ناقة أصاب عجزها داء، فإذا نهضت ارتعشت أفخاذها، قال الشاعر:
هممت بخير ثم قصرت دونه *** كما ناءت الرجزاء شدّ عقالها
قيل: الرجز مشتق من الرجازة، وهي صوف تزين به الهوادج، كأنه وسمهم، قال الشاعر:
ولو ثقفاها ضرجت بدمائها *** كما ضرجت نضو القرام الرجائز
الاستسقاء: طلب السقي، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله: {وإياك نستعين} العصا: مؤنث، والألف منقلبة عن واو، قالوا: عصوان، وعصوته: أي ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذاً، قالوا: أعص، أصله أعصوو على فعول قياساً، قالوا: عصى، أصله عصوو، ويتبع حركة العين حركة الصاد، قال الشاعر:
ألا إن لا تكن إبل فمعزى *** كائن قرون جلتها العصى
الحجر: هو هذا الجسم الصلب المعروف عند الناس، وجمع على أحجار وحجار، وهما جمعان مقيسان فيه، وقالوا: حجارة بالتاء، واشتقوا منه، قالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جداً. الانفجار: انصداع شيء من شيء، ومنه انفجر، والفجور: وهو الانبعاث في المعصية كالماء، وهو مطاوع فعل فجره فانفجر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها انفعل، وقد تقدّم ذكرها. اثنتا: تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد، فيقال: اثن، ولا اثنة، ولامهما محذوفة، وهي ياء، لأنه من ثنيت. العشرة، بإسكان الشين، لغة الحجاز، وبكسرها لغة تميم، والفتح فيها شاذ غير معروف، وهو أوّل العقود، واشتقوا منه فقالوا: عشرهم يعشرهم، ومنه العشر والعشر، والعشر: شجر لين، والإعشار: القطع لا واحد لها، ووصل بها المفرد، قالوا: برمة أعشار. العين: لفظ مشترك بين منبع الماء والعضو الباصر، والسحابة تقبل من ناحية القبلة، والمطر يمطر خمساً أو ستاً، لا يقلع، ومن له شرف في الناس، والثقب في المزادة والذهب وغير ذلك، وجمع على أعين شاذ، أو عيون قياساً، وقالوا: في الأشراف من الناس: أعيان، وجاء ذلك قليلاً في العضو الباصر، قال الشاعر:
أسمل أعياناً لها ومآقيا ***
أناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإذا سمي به مذكر صرف، وقول الشاعر:
وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي ***
منع صرفه، إما لأنه علم على مؤنث، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين. مشرب: مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه: كسرت ودخل، أو أعلت: كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون. العثو، والعثى: أشدّ الفساد، يقال: عثا يعثو عثواً، وعثى يعثى عثياً، وعثا يعثى عثياً: لغة شاذة، قال الشاعر:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
وثبوت العثى دليل على أن عثى ليس أصلها عثو، كرضي الذي أصله رضو، خلافاً لزاعمه. وعاث يعيث عيثاً ومعاثاً، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف: وهي السوسة التي تلحسه. الطعام: اسم لما يطعم، كالعطاء، اسم لما يعطي، وهو جنس. الواحد: هو الذي لا يتبعض، والذي لا يضم إليه ثان. يقال: وحد يحد وحداً وحدة إذا انفرد. الدعاء: التصويت باسم المدعوّ على سبيل النداء، والفعل منه دعا يدعو دعاء. الإنبات: الهمزة فيه للنقل، وهو: الإخراج لما شأنه النمو. البقل: جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت: أي صارت ذات بقل، ومنه: الباقلاء، قاله ابن دريد. القثاء: اسم جنس واحدة قثاءة، بضم القاف وكسرها، وهو هذا المعروف. وقال الخليل: هو الخيار، ويقال: أرض مقثأة: أي كثيرة القثاء. الفوم، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل أمية بن وغيرهم: هو الثوم، أبدلت الثاء فاء، كما قالوا، في مغفور: مغثور، وفي جدث: جدف، وفي عاثور: عافور.
قال الصلت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة *** فيها القراديس والفومان والبصل
وأنشد مؤرج لحسان:
وأنتم أناس لئام الأصول *** طعامكم الفوم والحوقل
يعني: الفوم والبصل، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء، قالوا في الأثافي: الأثاثي، وكلا البدلين لا ينقاس، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء. وقال أبو مالك وجماعة: الفوم: الحنطة، ومنه قول أحيحة بن الجلاح:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد *** قدم المدينة عن زراعة فوم
قيل: وهي لغة مصر، وهو اختيار المبرد. وقال الفراء: وهي لغة قديمة. وقال ابن قتيبة والزجاج: هي الحبوب التي تؤكل. وقال أبو عبيدة وابن دريد: هي السنبلة، زاد أبو عبيدة بلغة أسد. وقيل: الحبوب التي تخبز. وقيل: الخبز، تقول العرب: فوموا لنا، أي اخبزوا، واختاره ابن قتيبة قال:
تلتقم الفالح لم يفوّم *** تقمماً زاد على التقمم
وقال قطرب: الفوم: كل عقدة في البصل، وكل قطعة عظيمة في اللحم، وكل لقمة كبيرة. وقيل: إنه الحمص، وهي لغة شامية، ويقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي للنسب، كما قالوا: شهلي ودهري. العدس: معروف، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام، وعدس: زجر للبغل. البصل: معروف. أدنى: أفعل التفضيل من الدنوّ، وهو القرب، يقال: منه دنا يدنو دنواً. وقال علي بن سليمان الأخفش: هو أفعل من الدناءة، وهي: الخسة والرداءة، خففت الهمزة بإبدالها ألفاً. وقال أبو زيد في المهموز: دنؤ الرجل، يدنأ دناءة ودناء، ودنأ يدنأ. وقال غيره: هو أفعل من الدون، أي أحط في المنزلة، وأصله أدون، فاصر وزنه: أفلع، نحو: أولى لك، هو أفعل من الويل، أصله أويل فقلب. المصر: البلد، مشتق من مصرت الشاة، أمصرها مصراً: حلبت كل شيء في ضرعها، وقيل المصر: الحد بين الأرضين، وهجر يكتبون: اشترى الدار بمصورها: أي بحدودها. وقال عديّ بن زيد:
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا
السؤال: الطلب، ويقال: سأل يسأل سؤالاً، والسؤل: المطلوب، وسال يسال: على وزن خاف يخاف، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. {سلهم أيّهم بذلك زعيم}، قالوا: لأن السؤال سبب إلى العلم فأجرى مجرى العلم. الذلة: مصدر ذلّ يذلّ ذلة وذلاً، وقيل: الذلة كأنها هيئة من الذل، كالجلسة، والذل: الخضوع وذهاب الصعوبة. المسكنة: مفعلة من السكون، ومنه سمى المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه، وقد بنى من لفظه فعل، قالوا: تمسكن، كما قالوا: تمدرع من المدرعة، وقد طعن على هذا النقل وقيل: لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرّع. باء بكذا: أي رجع، قاله الكسائي: أو اعترف، قاله أبو عبيدة، واستحق، قاله أبو روق؛ أو نزل وتمكن، قاله المبرد؛ أو تساوى، قاله الزجاج، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به أمن كلام العرب، وحذفنا نحن ذلك.
النبيء: مهموز من أنبأ، فعيل: بمعنى مفعل، كسميع من أسمع، وجمع على النبآء، ومصدره النبوءة، وتنبأ مسيلمة، كل ذلك دليل على أن اللام همزة. وحكى الزهراوي أنه يقال: نبؤ، إذا ظهر فهو نبئ، وبذلك سمي الطريق الظاهر: نبيئاً. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل، كشريف من شرف، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز، ثم سهل. وقيل: مشتق من نبا ينبو، إذا ظهر وارتفع، قالوا: والنبي: الطريق الظاهر، قال الشاعر:
لما وردن نبياً واستتب بنا *** مسحنفر لخطوط المسح منسحل
قال الكسائي: النبي: الطريق، سمي به لأنه يهتدي به، قالوا: وبه سمي الرسول لأنه طريق إلى الله تعالى. العصيان: عدم الانقياد للأمر والنهي والفعل، منه: عصى يعصي، وقد جاء العصى في معنى العصيان. أنشد بن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء:
في طاعة الرب وعصى الشيطان ***
الاعتداء: افتعال من العدو، وقد مرّ شرحه عند قوله: {بعضكم لبعض عدوّ}
{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية}. القائل: هو الله تعالى، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع عليهما السلام، قولان: وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي، نحو: دخلت في غمار الناس، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة تذكر في علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: {ولا تقربا هذه} مفعول به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه.
والقرية هنا بيت المقدس، في قول الجمهور، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدّي والربيع وغيرهم. وقيل: أريحا، قاله ابن عباس أيضاً، وهي بأرض المقدس. قال أبو زيد عمر بن شبة النمري: كانت قاعدة ومسكن ملوك، وفيها مسجد هو بيت المقدس، وفي المسجد بيت يسمى إيليا. وقال الكواشي: أريحا قرية الجبارين، كانوا من بقايا عاد، يقال لهم: العمالية ورأسهم: عوج بن عنق، وقيل: الرملة، قاله الضحاك؛ وقيل: أيلة، وقيل: الأردن؛ وقيل: فلسطين؛ وقيل: البلقاء؛ وقيل: تدمر، وقيل: مصر؛ وقيل: قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها؛ وقيل: الشام. روي ذلك عن ابن كيسان، وقد رجح القول الأوّل لقوله في المائدة: {ادخلوا الأرض المقدّسة} قيل: ولا خلاف، أن المراد في الآيتين واحد. وردّ هذا القول بقوله: فبدّل لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس. وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى، وهذا الجواب وهم، لأنه قد تقدّم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله: ادخلوا الأرض المقدّسة واحد، والقائل ذلك في آية المائدة قطعاً. ألا ترى إلى قوله: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة}، وقولهم: {قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين} قال وهب: كانوا قد ارتكبوا ذنوباً، فقيل لهم: {ادخلوا} الآية. وقال غيره: ملوا المنّ والسلوى، فقيل لهم: اهبطوا مصراً، وكان أوّل ما لقوا أريحا. وفي قوله: {هذه القرية} دليل على أنهم قاربوها وعاينوها، لأن هذه إشارة لحاضر قريب. قيل: والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدّس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين، ولم يكن موسى {معهم حين} دخلوها، فإنه مات هو وأخوه في التيه. وقيل: لم يدخلا التيه لأنه عذاب، والله لا يعذب أنبياءه.
{فكلوا منها حيث شئتم رغداً}: تقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله: {وكلا منها رغداً حيث شئتما}، إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء، وهناك تقديم الرغد على الظرف، وهنا تقديم الظرف على الرغد، والمعنى فيهما واحد، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء، قيل: وهو المعنى الكثير فيها، أعني أنه يكون المتقدّم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان، وإن كانت قد ترد بالعكس، وهو قليل. وللمعية والزمان، وهو دون الأول، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله: {فكلا} بالفاء، والقضية واحدة. وأما تقديم الرغد هناك فظاهر، فإنه من صفات الأكل أو الآكل، فناسب أن يكون قريباً من العامل فيه ولا يؤخر عنه، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلاً مؤثراً المنع لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاضلة بعده، ألا ترى أن قوله: {فكلوا منها حيث شئتم رغداً} وقوله: {وادخلوا الباب سجداً}، فهما سجعتان متناسبتان؟ فلهذا، والله أعلم، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين.
{وادخلوا الباب}: الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية، والباب أحد أبواب بيت المقدس، ويدعى الآن: باب حطة، قاله ابن عباس؛ أو الثامن، من أبواب بيت المقدس، ويدعى باب التوبة، قاله مجاهد والسدي؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى. {سجداً} نصب على الحال من الضمير في ادخلوا، قال ابن عباس: معناه ركعاً، وعبر عن الركوع بالسجود، كما يعبر عن السجود بالركوع، قيل: لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيفاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعاً، فلا يحتاج فيه إلى الأمر، وهذا لا يلزم، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب.
وقيل: معناه خضعاً متواضعين، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب، ونذكر وجه اختياره لذلك. وقيل: معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض، والمعنى: ادخلوا ساجدين شكراً لله تعالى، إذ ردهم إليها. وهذا هو ظاهر اللفظ. قال أبو عبد الله بن أبي الفضل: وهذا بعيد، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع، لأنهم إذا أخذوا في التوبة، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعاً مستكيناً، وما ذهب إليه لا يلزم، لأن أخذ الحال مقارنة، فتعذر ذلك عنده، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون. وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا. وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخياً عن الدخول، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائداً به غداً. وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيراً، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى. وقال الزمخشري: أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب، شكراً لله وتواضعاً، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب، بل أمروا بالدخول في حال السجود. فالسجود ليس مأموراً به، بل هو قيد في وقوع المأمور به، وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية، فتناقضتا، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييدياً إسنادياً، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاماً ومن حيث الإسناد يكتفي، فظهر التناقض. وفي كيفية دخولهم الباب أقوال: قال ابن عباس وعكرمة: دخلوا من قبل أستاههم، وقال ابن مسعود: دخلوا مقنعي رؤوسهم، وقال مجاهد: دخلوا على حروف أعينهم، وقال مقاتل: دخلوا مستلقين، وقيل: دخلوا منزحفين على ركبهم عناداً وكبراً، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم. فاضمحلت هذه التفاسير، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وقولوا حطة}، حطة: مفر، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة، فقدر مسألتنا حطة هذا تقديراً لحسن بن أبي الحسن.
وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقال غيرهما: التقدير أمرك حطة. وقيل: التقدير أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها. قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله:
صبر جميل فكلانا مبتلى ***
والأصل صبراً. انتهى كلامه، وهو حسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي:
صبراً جميلاً فكلانا مبتلي ***
بالنصب. والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر:
إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة *** معتقة مما تجيء به التجر
روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو: قلت قولاً، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقاً، أو معبراً به عن جملة نحو: قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحداً من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي. وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلاً إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى. ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام. أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى: {يقال له إبراهيم} إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله:
سمعت الناس ينتجعون غيثا *** وجدنا في كتاب بني تميم *** أحق الخيل بالركض المعار
فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة. وأما القول فلا يقع إلا على الجمل، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها. واختلفت أقوال المفسرين في حطة، فقال الحسن: معناه حط عنا ذنوبنا، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب: أمروا أن يستغفروا، وقال عكرمة: معناها لا إله إلا الله، وقال الضحاك: معناه وقولوا هذا الأمر الحق، وقيل: معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي.
وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير. وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها، قيل: والأقرب خلافه، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم والخضوع، حتى لو قالوا: اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، لكان الخضوع حاصلاً، لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها.
{يغفر}، نافع: بالياء مضمومة، ابن عامر: بالتاء، أبو بكر من طريق الجعفي: يغفر، الباقون: نغفر. فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات، لأن صدر الآية {وإذ قلنا} ثم قال: {يغفر}، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على القول الدال عليه وقولوا، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازاً لما كان سبباً للغفران، ومن قرأ بالنون، وهي قراءة باقي السبعة، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله: {وإذ قلنا}، وما بعده من قوله: {وسنزيد}، فالكلام به في أسلوب واحد، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ {خطاياكم}، وأمالها الكسائي. وقرأت طائفة: تغفر بفتح التاء، قيل: كأن الحطة تكون سبب الغفران، يعني قائل هذا وهو ابن عطية، فيكون الضمير للحطة وهذا ليس بجيد، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سبباً للغفران. وقد بينا ذلك قبل، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من: {وقولوا}، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز، إذ كانت سبباً للغفران. وقرأ الجحدري وقتادة: تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة. وروي عن قتادة: يغفر بالياء مضمومة. وقرأ الأعمش: يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة. وقرأ الحسن: يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم. وقرأ أبو حياة: تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم. وحكى الأهوازي أنه قرأ: خطاياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة. وحكى عنه أيضاً العكس. وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوج والفتحة تنشأ عنها الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله:
وخندف هامة هذا العألم *** فلأن يهمزوا هذا أولى
وهذا توجيه شذوذ. ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان: خطاياكم، أو خطياتكم، أو خطيتكم مفعولاً لم يسم فاعله، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون، كان ذلك مفعولاً، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر.
وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}، وذكرنا الخلاف في ذلك. وهنا تقدمت أوامر أربعة: {ادخلوا}، {فكلوا}، {وادخلوا الباب}، {وقولوا حطة}، والظاهر أنه لا يكون جواباً إلا للآخرين، وعليه المعنى، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود، وبقوله: {وقولوا حطة} لأن فيه السؤال بحط الذنوب، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة. ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى: {وقولوا حطة}، {وادخلوا الباب سجداً}، {نغفر}، والقصة واحدة. فرتب الغفران هناك على قولهم حطة، وعلى دخول الباب سجداً، لما تضمنه الدخول من السجود. وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع. وقرأ من الجمهور: بإظهار الراء من نغفر عند اللام، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف.
{وسنزيد}: هنا بالواو، وفي الأعراف {سنزيد}، والتي في الأعراف مختصرة. ألا ترى إلى سقوط رغداً؟ والواو من: {وسنزيد}، وقوله: {فأرسلنا عليهم} بدل، {فأنزلنا على الذين ظلموا}، وإثبات ذلك هنا، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك. والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم، وضده النقص. {المحسنين}، قيل: الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة، وقيل: المحسنين منهم، فقيل: معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات، وقيل: معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئاً بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات، وقيل: معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئاً مخطئاً نغفر له خطيئته، وكانوا على هذين الصنفين، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجداً وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم. وقيل: المحسنون من دخل، كما أمر وقال: لا إله إلا الله، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم. فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي، أي كان محسناً، أو في المستقبل، أي من أحسن منهم بعد، أو في الحال، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجداً والقول حطة. وهذه الجملة معطوفة على: {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم}، وليست معطوفة على نغفر فتكون جواباً، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الإعراف في قوله سنزيد؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً. والقول حطة، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله.
{فبدّل الذين ظلموا}: ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين، وأن الظالمين هم الذين بدلوا، فإن كان كلهم بدلوا، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بالعلة، وكأنه قيل: فبدّلوا، لكنه أظهره تنبيهاً على علة التبديل، وهو الظلم، أي لولا ظلمهم ما بدلوا، والمبدّل به محذوف تقديره: فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة.
{قولاً غير الذي قيل لهم}: ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل، على أن المحذوف هو هذا المظهر، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل، والمنصوب هو الحاصل. واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا: حطة، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد: حنطة، وقال السدّي عن أشياخه: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء، وقال أبو صالح: سنبلة، وقال السدّي ومجاهد أيضاً: هطا شمهاثاً، وقيل: حطى شمعاثاً، ومعناها في هذين القولين: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة. وقيل: حبة في شعيرة، وقال ابن مسعود: حنطة حمراء فيها شعير، وقيل: حنطة في شعير، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: حبة حنطة مقلوة في شعرة، وقيل: تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاء والاستخفاف. وقيل: إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل الله عليهم.
والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا: حبة في شعرة، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، فيكون بعضهم قال: كذا، وبعضهم قال: كذا، فلا يكون فيها تضاد. ومعنى الآية: أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولاً مغايراً له مشعراً باستهزائهم بما أمروا به، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم. كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله، فاستحقوا بذلك النكال.
{فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً}: كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعاراً بعلية نزول الرجز. وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال: {فأرسلنا عليهم}، لأن المضمر هو المظهر. وقرأ ابن محيصن: رجزاً بضم الراء، وقد تقدّم أنها بالغة في الرجز. واختلفوا في الرجز هنا، فقال أبو العالية: هو غضب الله تعالى، وقال ابن زيد: طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفاً، وقال وهب: طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفاً، وقال ابن عباس: ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً وهلك سبعون ألفاً عقوبة. والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع.
{من السماء}: إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهراً، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء. {بما كانوا}، ما: مصدرية التقدير بكونهم. {يفسقون}. وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، وهو بعيد. وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين، وهي لغة. قال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله: {على الذين ظلموا}. وفائدة التكرار التأكيد، لأن الوصف دال على العلية، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضاً. وقال غير أبي مسلم: ليس مكرر الوجهين: أحدهما: أن الظلم قد يكون من الصغائر، {ربنا ظلمنا}، ومن الكبائر: {إن الشرك لظلم عظيم} والفسق لا يكون إلا من الكبائر. فلما وصفهم بالظلم أوّلاً وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر. والثاني: أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا يزول التكرار. انتهى..
وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: {فبدّل الذين ظلموا}، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر. وقال قوم: يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ سدّها، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى، وفي تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، وفي نقل الحديث بالمعنى. وذكروا أن في الآية سؤالات: الأول: قوله هنا، {وإذ قلنا}، وفي الأعراف: {وإذ قيل} وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة. الثاني: قال هنا: ادخلوا، وهناك اسكنوا. وأجيب بأن الدخول مقدّم على السكنى، فذكر الدخول في السورة المتقدّمة. والسكنى في المتأخرة. الثالث: هنا خطاياكم، وهناك: خطيئتكم. وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده، وهو غفران الكثير. والخطيئات جمع قلة لما لم يضف ذلك إلى نفسه. الرابع: ذكر هنا: رغداً وهناك: حذف. وأجيب بالجواب قبل. الخامس: هنا قدم دخول الباب على القول، وهناك عكس. وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون. فاشتغاله بحط الذنب مقدّم على اشتغاله بالعبادة، فكلفوا بقول حطة أولاً، ثم بالدخول وغير مذنبين. فاشتغاله أولاً بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب، فلما احتمل الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ. السادس: إثبات الواو في وسنزيد هنا، وحذفها هناك. وأجيب بأنه لما تقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذناً بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين، فالغفران في مقابلة القول، والزيادة في مقابلة ادخلوا.
السابع: لم يذكر ههنا منهم وذكر هناك. وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال: {ومن قوم موسى أمة} فذكر لفظ من آخراً الياطبق آخره أوله، وهنا لم تبن القصة على التخصيص. الثامن: هنا فأنزلنا، وهناك: فأرسلنا. وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية، وهذا إنما يحدث بالآخر. التاسع: هنا: يفسقون، وهناك: يظلمون. وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا. قال بعض الناس: بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود. وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعاً، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة، فيفسقون يحتمل الحال، وإن كان قد وقع على ما مضى من المخالفات التي فسقوا بها، فهو مضارع وقع موضع الماضي، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام.
{وإذ استسقى موسى لقومه}: هذا هو الإنعام التاسع، وهو جامع لنعم الدنيا والدين. أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء، ولولا هو لهلكوا في التيه، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة. وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه، وعلى صدق موسى عليه السلام، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته. وقيل: مفعول استسقى محذوف، أي استسقى موسى ربه، فيكون المستسقى منه هو المحذوف، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله: {إذ استسقاه قومه} أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس: وحذف المفعول تقديره استسقى ماء، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ***
ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب، كان يسمع من كلامهم: استسقى زيد وبه الماء، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقي منه ومرة إلى المست

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10